الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من فوائد الشعراوي في الآية: قال رحمه الله:{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ}وكأن الآية التي أرسلها الله مع رسوله وهي القرآن لتثبت لهم صدقه في البلاغ عن الله لم تقنعهم، ولم يكتفوا بها، بل طالبوا بآيات أخرى، فهم قد قالوا: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلًا} [الإسراء: 90-92]هم لا يريدون أن يؤمنوا بل إنهم يدخلون في اللجاج، والتماس سبل الفرار من الإيمان؛ لذلك تجد أن كل الحجج التي وقفوا بها أمام دعوة الرسول هي أكاذيب؛ فقالوا إنه ساحر يفرق بين المرء وزوجه، وبين الولد وأبيه، ويدخل بما جاء به- ويزعم أنه من عند الله- الفتنة في الأسرة الواحدة.لكن لماذا لم يتساءلوا: مادام قد سحر غيرنا فلماذا لم يسحرنا؟. وهل تأبوا هم على السحر؟. وهل للمسحور رغبة أو خيار مع الساحر؟. إنهم في ذلك كاذبون.ثم قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم شاعر. ولو أن أحدًا غيرهم قال مثل هذا الكلام لكان مقبولًا لأنه يجهل رسول الله، ولأنه ليس من قوم هم أهل فصاحة وأهل بلاغة وأهل بيان، إنهم يعرفون الشعر، والنثر، والخطابة والكتابة. فلو كان هذا الأمر من غيرهم لكان القول مقبولًا، ولذلك نجد منهم من تصفو نفسه يقول: والله ما هو بقول كاهن ولا بقول شاعر. ويطلب الحق منهم ألا يقولوا رأيا جماهيريا؛ ففي الرأي الجماهيري يختلط ويلتبس الحق بالباطل. بل كان يطلب منهم أن يكون الكلام محددًا بحيث تنسب كل كلمة إلى قائلها فيقول الحق: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ...} [سبأ: 46]أي لا تأتوا في أثناء هياج الناس وتتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون؛ لأن قولكم في الهياج الجماهيري غير محسوب على أحد لكن المطلوب أن تقوموا لله مثنى أي اثنين اثنين، وكل اثنين يقولان: هيا بنا نستعرض أمر هذا الرسول ونرى قضاياه: أهو كاهن؟. أهو ساحر؟. أهوشاعر؟ فبين الاثنين لا يضيع الحق أبدًا لأن كلًا منهما يناقش الآخر، وحين يجلس اثنان للنقاش، إذا انهزم منهما واحد أمام الآخر لا يُفضح أمام الغير، لكن حين يتناقش ثلاثة أو أربعة فكل منهم يخاف أن ينهزم أمام غيره، ونجد كل واحد يدافع عن نفسه. ولذلك حين يجلس اثنان معًا ليتناقشا، ويبحثا أي أمر لا يخشى أحدهما الهزيمة؛ لذلك يأتي الأمر من الله أن يقوموا لله مثنى أو فرادى، ويتذكر كل واحد منهم أمر هذا الرسول: أهو مجنون؟.إن أفعال المجنون وأعماله تكون متقطعة غير مستقيمة.ومحمد على خلق عظيم، وهل يقال للمجنون: إنه على خلق عظيم؟؛ لأن الإِنسان منا لا يعرف كيف سيقابله المجنون، أيضربه، أيشتمه، أيقطع له ملابسه؟. أمّا الخلق العظيم فمعناه الخلق المضبوط بالقيم، وخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم مضبوط بالقيم حتى صار ملكة وليس أمرًا افتعاليًّا. وحين يقول الناس عن إنسان إن خلقه الكرم أي تأصلت فيه صفة الكرم تأصلًا بحيث أصبحت تصدر عنه أفعال البذل بيسر وسهولة، وفي أعمال المعاني نسميها خلقًا، وفي أعمال المادة نسميها آلية.وكلنا يعرف أن الإِنسان إن أراد أن يتعلم قيادة سيارة فهو يتعلم قيادة الأفعال التي تؤدي إلى سير السيارة حتى يكتسب المهارة ويؤديها بيسر وبدون صعوبة، وكذلك الشأن في الخلق حين تصدر وعنه الأفعال بدُربة ومهارة، ونجد- على سبيل المثال- من يتعلم الفقه، فيسأله إنسان عن الحكم في الأمر المعين، فيستعرض الأمر من أوجهه في وقت طويل، لكن من يتدرب يصبح الفقه بالنسبة إليه ملكة، فلا يتعب في استنباط الحكم. كذلك الخلق.ويوضح لهم الحق: أنتم تقولون عن الرسول: إنه مجنون، فاجلسوا مثنى مثنى أو فرادى وادرسوا تصرفاته ستجدون أنها تصرفات منطقية مبنية على خلق كامل مكتمل، وهو سلوك يختلف بالتأكيد عن سلوك المجنون؛ لأن المجنون لا ضابط له في حركاته ولا في سكناته ولا فيما يدع. وكذلك لا يمكن أن يكون شاعرًا؛ لأنكم أنتم أهل شعر، وكذلك ليس بكاهن؛ فالكهنة قد يستبدلون بآيات الله ثمنا قليلا، وهو الذي أعلن لكم رفض الملك والثروة والجاه. لكنهم قالوا: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ الله...} [الأنعام: 124]وقد حدث الوليد بن المغيرة نفسه بذلك، وكان من ناحية السن أسنّ من رسول الله، ومن ناحية المال كان غنّيا، ومن ناحية الأولاد عنده العزوة والولد، وقال: لو كانت الرسالة بكل هذه الأمور لكنت أنا أولى بهذا لأنني أسنّ ولأنني أكثر مالًا ولأنني أكثر ولدًا. وهو قد قاسها بمقاييس البشر، وكأن الوليد لم يكن يعلم أن الرسالة ليست رئاسة، فإذا كنت أنت دون غيرك عندك المال وعندك الأولاد وعندك الزروع وغير ذلك لكنك لست على خلق محمد صلى الله عليه وسلم، الذي فطره الله عليه وأعده واصطفاه ليكون رسولا، ولكن مع هذا قال بعضهم: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]ولنسمع رد القرآن: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ...} [الزخرف: 32]ويوضح لهم الحق: نحن قسمنا بينهم الأمور الحياتية، لكنكم تريدون تقسيم رحمة الله، وفرق بين الرحمة في الرسالات وبين امتداد الحياة بالأقوات والمال؛ لأن هذه عطاءات ربوبية. لكن الرحمة هي عطاءات ألوهية، انكم تميزتهم في دنياكم بالمال والبنين والبساتين لا لخصوصية فيكم ولكن لأن نظام الكون كله إنما يحتاج إلى مواهب متكاملة لا إلى مواهب متكررة، ولو امتلك كل الناس مثل ما عندك يا وليد من أرض ومال لما وجدت من يفلح لك الأرض، ولما كان عندك من يسرج لك الفرس.ولهذا جعل الحق مسألة الثروة دولًا، أي يقلب سبحانه هذه الأمور لتكون متداولة بين الناس؛ تكون لهذا في زمن ولآخر في وقت وزمن آخر ولا تدوم لأحد.وحين جاء الناس إلى أبي جهل يحدثونه في الرسالة قال: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف؛ أطعموا فأطعمنا، كسوا فكسونا، ذبحوا فذبحنا. حتى صرنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدًا الا أن يأتينا بوحي كما يأتيه، ومعنى كفرسي رهان، أي فحين تنطلق الخيل في السباق في وقت واحد كانوا يدقون عودًا في الأرض عند نهاية السباق ومن يجذبه من الأرض يقال له: حاز قصب السبق، وعود القصبة هو غاية المشوار، حتى لا يقولن أحد لقد سبقني بخطوة أو غير ذلك.وهنا يقول الحق: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ}.وانظر إلى كلمة {جَاءَتْهُمْ آيَةٌ}، فمرة يقول: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ} [طه: 47]، ومرة يقول: {جَاءَتْهُمْ آيَةٌ}، فكأن الآية بلغت من وضوحها ومن استقلالها ومن ذاتيتها وخصوصيتها أنها تجيء. {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ الله...} [الأنعام: 124]ويقول الله لهم ردًا عليهم: لا تقترحوا ذلك على الله؛ لأن {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}؛ لأن الرسالة إنما تجيء لتنشر خيرًا في الجميع، ولكنها تعف نفسها عن آثار الانتفاع من ذلك الخير. والغير يريد أن تأتي له الخير ثم يترك بعضًا من الخير للناس. والرسول قد جاء لينشر خيره للآخرين، وهو نفسه لا ينال من هذا الخير إلا البلاغ به. ويأمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت ألا يأخذ أهله الزكاة، أمّا ما تركه فقد صار صدقة للناس، أي أنه لم ينتفع به في الدنيا؛ لذلك هو مأمون على الرسالة، ولم يردُ أن يأخذ الدنيا ليرثها أهله من بعده. وقد أراده الله كذلك ليكون خيره لكل الناس. فالرسالة تكليف، والنبوة ليس جزاؤها هنا، بل من عظمة الجزاء أنه في الآخرة، «ولذلك حينما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة وقالوا: اشترط لنفسك. قال: تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وتعملون كذا وتعملون كذا».قالوا له: فما لنا؟ أنت اشترطت لنفسك، فما لنا إن نحن وفينا؟. ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟. قال: لكم الجنة. هذا هو الثمن الذي عنده، فمن يريد الجنة يأتي إلى الإيمان، ومن يريد ما هو دون الجنة فليس مكانه مع أهل الإيمان. مع أنه قال لهم فيما بعد ستركبون السفن وتفرشون الزرابي والوسائد وتجلسون عليها، وبشرهم بالكثير، لكنه لم يقل لهم ذلك من البداية لأن من هؤلاء من لا يدرك خيرًا في الدنيا مع الإسلام؛ بل يموت والإسلام ضعيف واتباعه في قلة، لذلك أعطاهم الجزاء المضمون لهم جميعًا حين قالوا له: ماذا إن نحن وَفَّيْنا؟.قال: لكم الجنة. وكأنه صلى الله عليه وسلم يعلمهم أن الدنيا أهون من أن تكون جزاءً على العمل الصالح، فجزاء العمل الصالح خالد لا يفوتك ولا تفوته. {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ...} [الأنعام: 124]وحين نتأمل قولهم: {لَن نُّؤْمِنَ} نجد أن في هذا القول إصرارًا على عدم الإيمان، أي لن نؤمن حتى في المستقبل إنهم تحكموا في المستقبل. ثم يفضحهم الله فيموت بعضهم على الكفر، ومن بقي منهم يأتون مؤمنين بعد الفتح. ومن العجيب أن العبارة التي ينطقون بها هي عبارة مهزوزة لا تستقيم مع منطق الكفر منهم، قالوا: لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله، كأنهم قد عرفوا أن هناك رسلا من الله، والأصل في الآية أن يؤمنوا برسل الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، وهذا القول يدل على مجرد المعارضة المقترنة بالغباء، فما دمتم تعرفون أن لله رسلًا يصطفيهم، فكيف تحاولون أنتم تحديد إرادة الله في الاختيار؟.إن رسل الله كانت لهم آيات كونية، حسية مرئية، وهي وإن كانت فيها قوة المشهد الملزم، إلا إنه لا ديمومة لها، فمن رأى سيدنا موسى وهو يضرب البحر فينفلق لن يكذب هذه الآية الكونية، إلا أنها أصبحت خبرًا والخبر مناسب لمحدودية رسالة موسى، كذلك رسالة عيسى عليه السلام حيث أبرأ الأكمة والأبرص بإذن الله. وهذه الرسالات لزمن محدود وفي قوم محدودين، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ومعه المنهج المعجزة الباقي إلى قيام الساعة، فإن كانت المعجزة حسيّة فلن يراها إلى أن تقوم الساعة. فلابد له من آية باقية إلى قيام الساعة؛ لذلك كانت الآية في المعنويات والعقليات التي لا تختلف فيها الأمم ولا تختلف فيها الأزمان، لكنهم أرادوا معجزة حسية، وأخرى عقلية، حتى إذا جاءت واحدة فقط أنكروا الثانية، فحسم الحق الأمر وقال: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه}.ولو نظروا إلى كلمة {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}، فكلمة {أَعْلَمُ} تدل على أنه قد يمكّن الله بعضًا من خلقه ليعلموا لماذا اختار الله محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذين واجههم صلى الله عليه وسلم بأمر الدعوة، هل انتظروا منه أن تكون له آية أو معجزة، أو آمنوا به بمجرد الإخبار؟. لقد آمنوا بمجرد الإخبار؛ لأن تجربتهم معه أكدت أنه صادق وأمين على خبر الأرض، ولابد أن يكون مأمونًا على خبر السماء؛ لأنه لم يكذب عليهم في أمر الأرض، فكيف يكذب في أمر السماء؟إننا نجد أن سيدنا أبا بكر، بمجرد أن علم بأمر الرسالة قال: صدقت، وسيدتنا خديجة صدقته من فور أن قال، وأخذت صدق بلاغه من مقدمات حياته، وقالت أول استنباط فقهي في الإسلام.وكذا ذلك لسيدتنا أم المؤمنين خديجة قبل أن يعرف الفقه بمعناه الإصطلاحي الحديث، مما يدل على أن الاستنباطات للأدلة هي استنباطات للعقل الفطري السليم البعيد عن الأهواء. إنه يقدر أن يستقرئ الأمر ولابد أن يهتدي، فحين أعلن لها أنه خائف أن يكون الذي أصابه مرض أو مسٌ من الجن رفضت ذلك لأنه يصل الرحم، ويحمل الكلّ، ويعين على نوائب الدهر، وقال له: والله لا يخزيك الله أبدًا.إذن فقد جاءت بالمقدمات التي ترشح أن ربنا لا يمكن أن يخذله، وكل المقدمات مفاخر، كلها خلق عظيم، وكلها التقاءات إنسانية قبل أن يأتي منهج السماء، التقاءات إنسانية بالفطرة دون تقدير أو تدبير، وكان هذا أول استنباط فقهي في الإسلام. ولذلك نعرف السر لماذا جعل الله لرسوله أم المؤمنين خديجة أو زوجة له؟ لأنه ستمر به فترة لا يحتاج فيها إلى زوجة فقط. بل إلى ناضجة، ذلك النضج الكامل الذي تستقبل به مسائل النبوة، ولذلك حين يخرج إلى الغار تأتي له حكمة خديجة في الاستنباط قبل أن يوجد فقه الإسلام؟{الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه}؟، وهم قد أصروا على ألا يعلموا على الرغم من أنهم وجدوا منه خصالًا وأشياءً حكموا بوجودها فيه وأنها صفات رسول. {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله} [الأنعام: 124]هنا نجد فجوة انتقالية في الأداء، فمن قبل يتحدث سبحانه عمن يظنون أنهم كبار، فيأتي ليقول: إن الصِّغار سيصيبهم، وليس معنى الصغار الذل والهوان لدى الناس، لا، بل صغار وذل وهوان عند نفس كل منهم ذاتيًّا، فكل منهم سيشعر بالذل أمام نفسه ويستصغر نفسه. كأن الصغار منسوبًا إلى عندية الله فهو لا يزول أبدًا؛ لأنه لا توجد قوة ثانية تقول لله إن قدرك لن يتحقق. فالصغار والذل والهوان سينزل بهم هم مع كونهم أكابر المجرمين فلن يستطيعوا دفعه عن أنفسهم، وسيصيبهم مع ذلك عذاب شديد.
|